الثلاثاء، 2 فبراير 2010

قصة / كم كنتُ طفلة (5)

أعادني إلى الواقع صرخة الشاب الفلسطيني، عندما أطلق عليه الجندي النار،

طرحه أرضاً، ولكن مهلاً، إنها تماماً كابتسامة أبي، أتذكرها كأنها كانت بالأمس!

ابتسم وهو يقول: "فزت ورب الكعبة!" ولفظ آخر أنفاسه!



لم أتمالك نفسي، بدت الصورة واضحة كما لم تكن من قبل أبداً،

واضحة أمام ناظري حتى أنني أنفجر غضبا وحنقا، وأزداد شوقا للشهادة،

وحنينا لوطن طاهر من نجاسة اليهود،

ركضت نحو الجندي لا أعرف ماذا سأفعل أو كيف يمكن أن أهزم السلاح بيد عارية؟



حملت حجراً من على الأرض وقبلت التراب، قبلته قبلة الوداع،

حملت الحجر بكل ما أملك من قوة، غضب، شوق، كل ما أملك من مشاعر،

ورميت بها نحو الجنديّ، أصابته في رأسه،

انتشت روحي عندما رأيت منظر الدم ينزف من جرحه،

"هذه لوالدي" قلتها بفرح غامر يملأ كياني!




التفت لأكمل طريقي إلى المدرسة، لكنني علمت أنني لن أصل إليها اليوم،

بل لن أصل أبداً! رفع السلاح في وجهي، ضغط لتنطلق الرصاصة،

إلى صدري تماماً، أصابت الهدف في قلبي،

لمست جسدي فرأيت يدي ملطخة بالدماء، ظننتُ أنني يجب أن أبكي،

لكن الابتسامة ارتسمت دون أن أشعر، وخرجت الكلمات من فمي:

"فهمت الآن يا أبي، فهمت!" ..




- تمّــت -

الاثنين، 1 فبراير 2010

قصة / كم كنتُ طفلة (4)

مرّت خمس سنوات على استشهاد أبي،

وها أنا أسير في الطرقات وأتذكره في كل زاوية، وكأنه قد مات بالأمس!

كنتُ في طريقي إلى المدرسة، فلم أكن أخرج إلا إليها ومنها،

لأن أمي كانت تخشى عليّ كثيراً، كنتُ أجرّ قدميّ بكسل،

أكره هذا الروتين الممل، وهذا الخوف من كلّ شيء،

وهذه الإجراءات الأمنية المشددة في كل مكان، ومنظر الجنود بأسلحتهم،

كل شيء هنا يدعو للضّيق!


وبينما أنا أمشي إذ لمحت شابين يتجادلان مع بعض الجنود الإسرائيليين،

كانوا اثنان فقط في مواجهة العشرات، ولأن الجدال مع الجنود لا يكون فقط بالكلام،

فكان لا بد من أن تكون هناك إصابات، عجباً لماذا يلقون بأنفسهم إلى العناء؟

وما زالت الأسئلة تلحّ على عقلي،

رغم أن معلمتي قد أجابت على معظمها قبل خمس سنوات!

كان لا بد أن أقترب من هذه المواجهة لأن مدرستي تقع في ذلك الطريق،

وكأن الأقدار ساقتني إلى هنا لحكمة بالغة، لا يعلمها إلا الله.



سمعتُ الشاب يقـول:

"لن تأخذوا هذه الأرض، منزلنا هنا ألا تفهمون؟

أبعدوا دباباتكم وأسلحتكم عن هنا حالاً!

أتظنّون أنكم إن هدمتم منزلنا وسلبتم أرضنا أننا سنهرب؟

لا والله سنبقى هنا نذيقكم جحيماً، سنبقى لنفقدكم لذة النصر،

ونذيقكم مرّ الهزيمة!"

ثمّ ضحكة صاخبة من الجنديّ الإسرائيلي!



قال الشاب الآخر:

"اضحك يا ابن القردة والخنازير اضحك!"

وانقض عليه يضربه، وهجم صديقه يسانده!

لا أعرف لماذا وقفتُ أستمع، وقفتُ طويلاً، طويلاً جداً، أفكر!

ثمّ شعرتُ بأحدهم وراء ظهري، وسمعت محادثة بين بعض الجنود،

وأحمد لله أنني كنت قد تعلمت اللغة العبرية عن قريب،

بعد أن أخذت أمي تلحّ علي أن أفعل، فكل الفلسطينيين هنا يتقنونها، إلا أنا!




- كم هم أغبياء هؤلاء العرب، فليريحونا قليلاً من عنادهم الذي لا طائل من ورائه،

أتعلم؟ قد بدأتُ أتعب صراحة، وأتمنى لو أستطيع أن أهرب أو أهاجر،

لكنكَ تعلم الرئاسة العليا، ستبيدني إن علمت بأمري!


- لا تخشَ شيئاً فقد بدأ العرب يملّون مثلكَ تماماً،

فلننتظرهم إلى أن يهربوا هم منّا، لا أن نهرب نحن منهم،

ثمّ إنهم قد بدأوا يميلون إلى الصلح والسلام، هه!

يظنّون أنهم يمكن أن يعيشوا في سلام ما داموا على هذه الأرض!



- أضحكتني! ما هذا السلام إلا مصطلح نخدعهم به،

السلام لنا هو السيطرة التامة، وبناء دولة إسرائيل!


لم يعلموا بأن الأذن التي سمعت هذا الكلام،

قد كانت لفتاة شابة تفتحت لديها جروح قديمة،

وسلسلة حياتها تمرّ أمام عينيها سريعاً،

الجنود يقتحمون المنزل يبحثون عن أخيها،

يجرانه جرا وسط دموع أمها وصراخها ونحيبها،

يفتشون المنزل ويقلبونه رأساً على عقب!

ثم وفاة أبيها بين يديها وعلى حضنها، ما زالت تتذكر آخر كلامه،

ونطقه للشهادتين، كل هذا قد كان من أجل أن ننتصر نحن، وننصر عقيدتنا!



ما سمعته لم يكن كلاماً جديداً، لكنني للمرة الأولى أسمعه من عدوّي،

يتحدث عني وعن أهلي بهذه الطريقة الفضة، وبهذا اللسان المعوج،

وبهذا القلب القاسي،

تذكرت اللعبة التي حدثتني عنها معلمتي قبل خمس سنوات،

نعم لا أرضى أن يسلبوا أرضي، غالية هي على قلبي رغم كل شيء،

غالية لأنها مباركة من رب العالمين، ولأنها الأرض التي احتوت أيامي،

الأرض التي شربت دموعي وامتصتها إلى باطن الأرض،

الأرض التي اغتسلت بدماء أهلي وأحبّائي، هي الأرض التي أريد، ولا أريد غيرها،

هي الأرض التي ستكون دائماً لي، ولدين ربّي الذي ارتضى!




يُتبـــع ،،